فصل: باب تَمَنِّى الْخَيْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام: (لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ

وَقَوْلُهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ لِشَىْءٍ مَا أَذِنَ لِلنَّبِىِّ أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

وقال صَاحِبٌ لَهُ‏:‏ يُرِيدُ‏:‏ يَجْهَرُ بِهِ‏.‏

- وَقَالَ مرة‏:‏ مَا أَذِنَ لنَّبِىّ مَا أَذِنَ اللَّه لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَتَغَنَّى بِالْقُرْآنِ‏.‏

قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ تَفْسِيرُهُ يَسْتَغْنِى بِهِ‏.‏

وذكر فى كتاب الاعتصام حديث أبى هريرة، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏)‏‏.‏

وزاد غيره‏:‏ ‏(‏يجهر به‏)‏‏.‏

وذكره فى باب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 13‏]‏‏.‏

واختلف الناس فى معنى التغنى بالقرآن؛ ففسره ابن عيينة على أن المراد بالاستغناء، الذى هو ضد الافتقار، ورواه عن سعد ابن أبى وقاص، ذكر الحميدى، عن سفيان، حدثنا ابن جريج، عن ابن أبى مليكة، عن عبد الله بن أبى نهيك قال‏:‏ لقينى سعد بن أبى وقاص فى السوق فقال‏:‏ أتجار كبسة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏ليس منا من لم يتغن بالقرآن‏)‏‏.‏

وهكذا فسره وكيع، ومن تأول هذا التأويل كره قراءة القرآن بالألحان والترجيع‏.‏

روى ذلك عن أنس بن مالك وسعيد بن المسيب، والحسن، وابن سيرين، وسعيد بن جبير والنخعى، وقال النخعى‏:‏ كانوا يكرهون القراءة بتطريب، وكانوا إذا قرأوا القرآن قرأوه حدرًا ترتيلاً بحزن، وهو قول مالك‏:‏ روى ابن القاسم عنه أنه سئل عن الإلحان فى الصلاة فقال‏:‏ لا يعجبنى، وأعظم القول فيه، وقال‏:‏ إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم‏.‏

وقد روي عن ابن عيينة وجه آخر، ذكره إسحاق بن راهويه قال‏:‏ كان ابن عيينة يقول‏:‏ معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى أن يتغنى بالقرآن‏)‏‏.‏

يريد يستغنى به عما سواه من الأحاديث‏.‏

وقالت طائفة‏:‏ معنى التغنى بالقرآن‏:‏ تحسين الصوت به والترجيع بقرائته، والتغنى بما شاء من الأصوات واللحون وهو معنى قوله‏:‏ وقال صاحب له يريد‏:‏ يجهر به‏.‏

قال الخطابى‏:‏ والعرب تقول‏:‏ سمعت فلانا يغنى بهذا الحديث، أى يجهر به، ويصرح لا يكنى‏.‏

وقال أبو عاصم‏:‏ أخذ بيدى ابن جريج ووقفنى على أشعب الطماع وقال‏:‏ عن ابن أخى، ما بلغ من طمعكم‏؟‏ قال‏:‏ ما زفت امرأة بالمدينة إلا كشحت بيتى رجاء أن تهدى إلىّ‏.‏

يقول أخبر ابن أخى بذلك مجاهدًا غير مساتر ومنه قول ذى الرمة‏:‏ أحب المكان القفر من أجل أننى بها أتغنى باسمها غير معجم أى أجهر بالصوت بذكرها، لا أكنى عنها حذار كاشح أو خوف رقيب‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر عمر بن شيبة قال‏:‏ ذكرت لأبى عاصم النبيل تأويل ابن عيينة فى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يتغنى بالقرآن‏:‏ يستغنى به‏.‏

فقال‏:‏ لم يصنع ابن عيينة شيئًا، حدثنا ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير قال‏:‏ كانت لداود نبى الله معزفة يتغنى عليها وتبكى ويبكى‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ إنه كان يقرأ الزبور بسبعين لحنًا، يلون فيهن، ويقرأ قراءة يطرب منها المحموم، فإذا أراد أن يبكى نفسه لم تبق دابة فى بر أو بحر إلا أنصتن يسمعن ويبكين‏.‏

ومن الحجة لهذا القول أيضًا حديث ابن معقل فى وصف قراءة رسول الله وفيه ‏(‏ثلاث مرات‏)‏ وهذا غاية الترجيع ذكره البخارى فى كتاب الاعتصام وسئل الشافعى عن تأويل ابن عيينة فقال‏:‏ نحن أعلم بهذا، لو أراد صلى الله عليه وسلم الاستغناء لقال‏:‏ من لم يستغن بالقرآن‏.‏

ولكن لما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ يتغن بالقرآن‏.‏

علمنا أنه أراد به التغنى، وكذلك فسر ابن أبى مليكة التغنى أنه تحسين الصوت به، وهو قول ابن المبارك والنضر بن شميل‏.‏

وممن أجاز الإلحان فى القراءة‏:‏ ذكر الطبرى عن عمر بن الخطاب أنه كان يقول لأبى موسى ذكرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن‏.‏

وقال مرة‏:‏ من استطاع أن يغني بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل‏.‏

وكان عقبة بن عامر من أحسن الناس صوتًا بالقرآن‏.‏

فقال له عمر‏:‏ اعرض علىّ سورة كذا، فقرأ عليه فبكى عمر وقال‏:‏ ما كنت أظن أنها نزلت‏.‏

وأجازه ابن عباس وابن مسعود، وروى عن عطاء بن أبى رباح، واحتج بحديث عبيد بن عمير، وكان عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد يتتبع الصوت الحسن فى المساجد فى شهر رمضان‏.‏

وذكر الطحاوى عن أبى حنيفة وأصحابه أنهم كانوا يسمعون القرآن بالألحان، وقال محمد بن عبد الحكم‏:‏ رأيت أبى والشافعى ويوسف بن عمير يسمعون القرآن بالألحان‏.‏

واحتج الطبرى لهذا القول، وقال‏:‏ الدليل على أن معنى الحديث‏:‏ تحسين الصوت والغناء المعقول الذى هو تحزين القارئ سامع قراءته، كما الغناء بالشعر هو الغناء المعقول الذى يطرب السامع؛ ما روى سفيان عن الزهرى عن أبى سلمة عن أبى هريرة أن النبي عليه السلام قال‏:‏ ‏(‏ما أذن الله لشىء ما أذن لنبي حسن الترنم بالقرآن‏)‏، ومعقول عند ذوى الحجا أن الترنم لا يكون إلا بالصوت إذا حسنه المترنم وطرب به‏.‏

وروى فى هذا الحديث‏:‏ ما أذن الله لشىء ما أذن لنبى حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به، رواه يزيد بن الهاد عن محمد بن إبراهيم عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وهذا الحديث أبين البيان أن ذلك كما قلنا، ولو كان كما قال ابن عيينة لم يكن كذلك، وحسن الصوت والجهر به معنى‏.‏

والمعروف فى كلام العرب أن التغنى إنما هو الغناء الذى هو حسن الصوت بالترجيع، وقال الشاعر‏:‏

تغن بالشعر أما كنت قائله *** إن الغناء لهذا الشعر مضمار

قال‏:‏ وأما ادعاء الزاعم أن تغنيت بمعنى استغنيت فاش فى كلام العرب وأشعارها، فلا نعلم أحدًا من أهل العلم بكلام العرب قاله، وأما احتجاجه ليصح قوله بقول الأعشى‏:‏ وكنت امرءًا زمنًا بالعراق عفيف المناح طويل التغن وزعم أنه أراد بقوله‏:‏ طويل التغن‏:‏ طويل الاستغناء، أى الغنى، فإنه غلط، وإنما عنى الأعشى بالتغنى فى هذا الموضع الإقامة من قول العرب‏:‏ غنى فلان بمكان كذا إذا أقام به، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَأَن لَّمْ يَغْنَوْا فِيهَا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 92‏]‏، وأما استشهاده بقوله‏:‏ كلانا غنى عن أخيه حياته ونحن إذا متنا أشد تغانيا فإنه إغفال منه، وذلك أن التغانى تفاعل من نفسين، إذا استغنى كل واحد منهما عن صاحبه كما يقال‏:‏ تضارب الرجلان إذا ضرب كل واحد منهما صاحبه، وتشاتما وتقاتلا، ومن قال هذا القول فى فعل اثنين لم يجز أن يقول مثله فى فعل الواحد، وغير جائز أن يقال‏:‏ تغاني زيد وتضارب عمرو، وكذلك غير جائز أن يقال‏:‏ تغنى زيد بمعنى استغنى، إلا أن يريد قائله أنه أظهر الاستغناء وهو به غير مستغن كما يقال‏:‏ تجلد فلان إذا أظهر الجلد من نفسه، وهو غير جليد، وتشجع وهو غير شجاع، وتكرم وهو غير كريم، فإن وجه موجه الغنى بالقرآن إلى هذا المعنى على بعده عن مفهوم كلام العرب كانت المصيبة فى خطابه فى ذلك أعظم؛ لأنه لا يوجب ذلك من تأويله أن يكون الله تعالى لم يأذن لنبيه أن يستغنى بالقرآن، وإنما أذن له أن يظهر للناس من نفسه خلاف ما هو به من الخلال، وهذا لا يخفى فساده‏.‏

قال‏:‏ ومما بين فساد تأويل ابن عيينة أيضًا ألا يستغنى عن الناس بالقرآن‏.‏

من المحال أن يوصف أحد بأنه يؤذن له فيه أو لا يؤذن إلا أن يكون الإذن عند ابن عيينة بمعنى الإذن الذى هو إطلاق وإباحة، فإن كان كذلك فهو غلط من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ من اللغة، والثانى‏:‏ من إحالة المعنى عن وجهه، فأما اللغة فإن الإذن مصدر قوله أذن فلان لكلام فلان، فهو يأذن له إذا استمع له وأنصت، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ‏}‏ ‏[‏الانشقاق‏:‏ 2‏]‏، بمعنى سمعت لربها وحق لها ذلك، كما قال عدى بن يزيد‏:‏ إن همى فى سماع وأذن يمعنى‏:‏ فى سماع واستماع‏.‏

فمعنى قوله‏:‏ ما أذن الله لشىء إنما هو ما استمع الله إلى شىء من كلام الناس إلى نبى يتغنى بالقرآن‏.‏

وأما الإحالة فى المعنى فلأن الاستغناء بالقرآن عن الناس غير جائز وصفه بأنه مسموع ومأذون له‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد رفع الإشكال فى هذه المسألة أيضًا ما رواه ابن أبى شيبة قال‏:‏ حدثنا يزيد بن الحباب قال‏:‏ حدثنا موسى بن على بن رباح عن أبيه عن عقبة بن عامر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تعلموا القرآن وتغنوا به واكتبوه، فوالذى نفسى بيده لهو أشد تقصيًا من المخاض من العقل‏)‏‏.‏

وذكر أهل التأويل فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 51‏]‏ أن هذه الآية نزلت فى قوم أتوا النبى بكتاب فيه خبر من أخبار الأمم‏.‏

فالمراد بالآية الاستغناء بالقرآن عن علم أخبار الأمم على ما ذكره إسحاق بن راهويه عن ابن عيينة، وليس المراد بالآية الاستغناء الذى هو ضد الفقر واتباع البخارى الترجمة بهذه الآية يدل أن هذا كان مذهبه فى الحديث، والله أعلم‏.‏

وسيأتى شىء من هذا المعنى فى آخر كتاب الاعتصام فى باب ذكر النبى صلى الله عليه وسلم وروايته عن ربه عز وجل، وفى باب قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الماهر بالقرآن مع الكرام البرررة، إن شاء الله، عز وجل‏)‏‏.‏

باب اغْتِبَاطِ صَاحِبِ الْقُرْآن

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، سَمِعْتُ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏لا حَسَدَ إِلا عَلَى اثْنَتَيْنِ‏:‏ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ، وَقَامَ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وَرَجُلٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَالا، فَهُوَ يَتَصَدَّقُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ‏:‏ رَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، فَسَمِعَهُ جَارٌ لَهُ، فَقَالَ‏:‏ لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا، فَهُوَ يُهْلِكُهُ فِى الْحَقِّ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ لَيْتَنِى أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ فُلانٌ، فَعَمِلْتُ مِثْلَ مَا يَعْمَلُ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر أبو عبيد بإسناده عن عبد الله بن عمر بن العاص قال‏:‏ من جمع القرآن فقد حمل أمرًا عظيمًا، وقد استدرجت النبوة بين جنبيه إلا أنه لا يوحى إليه، فلا ينبغى لصاحب القرآن أن يرفث فيمن يرفث ولا يجهل فيمن يجهل، وفى جوفه كلام الله‏.‏

وقال سفيان بن عيينة‏:‏ من أعطى القرآن فمد عينيه إلى شىء ما صغر القرآن فقد خالف القرآن، ألم يسمع قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِى وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 87‏]‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ يعنى القرآن، وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 16‏]‏ الآية‏.‏

قال‏:‏ هو القرآن‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ ومن ذلك قول النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أنفق عبد من نفقة أفضل من نفقة فى قول‏)‏‏.‏

ومنه قول شريح لرجل سمعه يتكلم فقال له‏:‏ أمسك عليك نفقتك‏.‏

وفى حديث ابن عمر وأبى هريرة‏:‏ أن حامل القرآن ينبغى له القيام به آناء الليل والنهار، ومن فعل ذلك فهو الذى يحسد على فعله فيه، وكذلك من آتاه الله مالاً وتصدق به آناء الليل والنهار، فهو المحسود عليه، ومن لم يتصدق به وشح عليه فلا ينبغى حسده عليه لما يجتنى من سوء عاقبته وحسابه عليه‏.‏

باب خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ

- فيه‏:‏ عُثْمَان، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ‏)‏‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْدِالرَّحْمَنِ وَذَاكَ الَّذِى أَقْعَدَنِى مَقْعَدِى هَذَا‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَفْضَلَكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ سَهْل بْنِ سَعْد، أن امْرَأَةٌ قَالَ‏:‏ ‏(‏أَتَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ‏:‏ إِنِّى قَدْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ زَوِّجْنِيهَا‏.‏‏.‏‏.‏

إلى قوله‏:‏ ‏(‏قَدْ زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ حديث عثمان يدل أن قراءة القرآن أفضل أعمال البر كلها؛ لأنه لما كان من تعلم القرآن أو علمه أفضل الناس وخيرهم دل ذلك على ما قلناه؛ لأنه إنما وجبت له الخيرية والفضل من أجل القرآن، وكان له فضل التعليم جاريًا ما دام كل من علمه تاليًا‏.‏

وحديث سهل إنما ذكره فى هذا الباب؛ لأنه زوجه المرآة لحرمة القرآن‏.‏

ومما روى فى فضل تعلم القرآن وحمله ما ذكره أبو عبيد من حديث عقبة بن عامر قال‏:‏ خرج علينا رسول الله ونحن فى الصفة، فقال‏:‏ ‏(‏أيكم يحب أن يغدو كل يوم إلى بطحان أو العقيق فيأخذ ناقتين كوماوين زهراوين فى غير إثم ولا قطيعة رحم‏.‏

قلنا‏:‏ كلنا يا رسول الله نحب ذلك قال‏:‏ فلأن بعد يغدو أحدكم كل يوم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين ومن ثلاث ومن أعدادهن من الإبل‏.‏

وذكر عن كعب الأحبار أن فى التوراة أن الفتى إذا تعلم القرآن وهو حديث السن وعمل به وحرص عليه وتابعه؛ خلطه الله بلحمه ودمه وكتبه عنده من السفرة الكرام البررة، وإذا تعلم الرجل القرآن وقد دخل فى السن وحرص عليه، وهو فى ذلك يتابعه وينفلت منه كتب له أجره مرتين‏.‏

وروى عن الأعمش قال‏:‏ مر أعرابى بعبد الله بن مسعود وهو يقرئ قومًا القرآن فقال‏:‏ ما يصنع هؤلاء‏؟‏ فقال ابن مسعود‏:‏ يقتسمون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال عبد الله بن عمرو‏:‏ عليكم بالقرآن، فتعلموه وعلموه أبنائكم، فإنكم عنه تسألون، وبه تجزون، وكفى به واعظًا لمن عقل‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ لا يسأل أحد عن نفسه غير القرآن، فإن كان يحب القرآن فإنه يحب الله ورسوله، وعن أنس عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن لله أهلين من الناس‏.‏

قيل‏:‏ من هم يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ هم أهل القرآن، أهل الله وخاصته‏)‏‏.‏

باب الْقِرَاءَةِ عَلى ظَهْرِ قَلبه

- فيه‏:‏ سَهْل بْنِ سَعْدٍ، وذكر حديث الموهوبة، وَقَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم للرجل ‏(‏مَاذَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ مَعِى سُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، وَسُورَةُ كَذَا، عَدَّهَا، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَتَقْرَؤُهُنَّ عَنْ ظَهْرِ قَلْبِكَ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ نَعَمْ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اذْهَبْ فَقَدْ مَلَّكْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ الْقُرْآنِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الحديث يدل على خلاف ما تأوله الشافعى فى إنكاح النبى صلى الله عليه وسلم الرجل بما معه من القرآن، أنه إنما زوجه إياها بأجرة تعليمها‏.‏

وقوله فى هذا الحديث‏:‏ أتقرؤهن عن ظهر قلبك‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

فزوجه لذلك‏.‏

فدل أنه صلى الله عليه وسلم إنما زوجها منه لحرمه استظهاره للقرآن‏.‏

وقد روى عن النبي عليه السلام تعظيم حامل القرآن وإجلاله وتقديمه‏.‏

ذكر أبو عبيد من حديث طلحة بن عبيد الله بن كريز قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن من تعظيم جلال الله إكرام ثلاثة‏:‏ الإمام المقسط، وذى الشيبة المسلم، وحامل القرآن‏)‏‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر يوم أحد بدفن الرجلين والثلاثة فى قبر واحد، ويقول‏:‏ قدموا أكثرهم قرآنًا‏.‏

وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه أمر بالقراءة فى المصحف نظرًا من حديث زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبى سعيد الخدرى قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعطوا أعينكم حظها من العبادة، قالوا‏:‏ يا رسول الله، وما حظها من العبادة‏؟‏ قال‏:‏ النظر فى المصحف والتفكر فيه، والاعتبار عند عجائبه‏)‏‏.‏

وقال يزيد بن أبى حبيب‏:‏ من قرأ القرآن فى المصحف خفف عن والديه العذاب وإن كانا كافرين‏.‏

وعن عبد الله بن حسان قال‏:‏ اجتمع اثنا عشر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن من أفضل العبادة قراءة القرآن نظرًا، وقال أسد بن وداعة‏:‏ ليس من العبادة شىء أشد على الشيطان من قراءة القرآن نظرًا‏.‏

وقال وكيع‏:‏ قال الثورى‏:‏ سمعنا أن تلاوة القرآن فى الصلاة أفضل من تلاوته فى غير الصلاة، وتلاوة القرآن أفضل من الذكر، والذكر أفضل من الصدقة، والصدقة أفضل من الصوم، والقراءة فى المصحف أفضل من القراءة ظاهرًا؛ لأنها رياء‏.‏

هذه الآثار من رواية ابن وضاح‏.‏

باب اسْتِذْكَارِ الْقُرْآنِ وَتَعَاهُدِهِ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَرَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإبِلِ الْمُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مسعود، عن النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنَ النَّعَمِ من عقلها‏)‏‏.‏

أَبُو مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏تَعَاهَدُوا الْقُرْآنَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما شبه صلى الله عليه وسلم صاحب القرآن بصاحب الإبل المعلقة إن عاهد عليها أمسكها وأنه يتفصى من صدور الرجال؛ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا سَنُلْقِى عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 5‏]‏، فوصفه تعالى بالثقل، ولولا ما أعان على حفظه ما حفظوه، فقال‏:‏ ‏(‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 17‏]‏، وقال‏:‏ ‏(‏وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏، فبتيسير الله وعونه لهم عليه بقى فى صدورهم، فهذان الحديثان يفسران آيات التنزيل؛ فكأنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 17‏]‏،‏)‏ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 17‏]‏، إذا تعوهد وقرئ أبدًا وتذكر‏.‏

وقوله‏:‏ أشد تفصيًا، أى تفلتًا، قال صاحب العين‏:‏ فصى اللحم عن العظم إذا انفسخ، والإنسان يتفصى من الشىء إذا تخلص منه، والاسم الفصية‏.‏

باب الْقِرَاءَةِ عَلَى الدَّابَّةِ

- فيه‏:‏ ابْنَ مُغَفَّل، رَأَيْتُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَهُوَ يَقْرَأُ عَلَى رَاحِلَتِهِ سُورَةَ الْفَتْحِ‏.‏

إنما أراد بهذا الباب والله أعلم ليدل أن القراءة على الدابة سنة موجودة، وأصل هذه السنة فى كتاب الله تعالى، وهو قوله‏:‏ ‏)‏ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 13‏]‏‏.‏

باب تَعْلِيمِ الصِّبْيَانِ الْقُرْآن

- فيه‏:‏ ابْن جُبَيْر، قَالَ‏:‏ إِنَّ الَّذِى تَدْعُونَهُ الْمُفَصَّلَ هُوَ الْمُحْكَمُ‏.‏

وقال ابْنُ عَبَّاس‏:‏ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَدْ قَرَأْتُ الْمُحْكَمَ‏.‏

قيل لَهُ‏:‏ وَمَا الْمُحْكَمُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ الْمُفَصَّلُ‏.‏

ذكر ابن أبى زيد قال‏:‏ روى أن تعليم القرآن الصبيان يطفئ غضب الرب، وإنما سمى المفصل لكثرة السور والفصول فيه، عن ابن عباس‏.‏

وقيل‏:‏ إنما سمى بالمحكم أيضًا؛ لأن أكثره لا نسخ فيه‏.‏

واختلف فى سن ابن عباس حين مات النبي صلى الله عليه وسلم فروى أبو بشير، عن سعيد بن جبير فى هذا الباب ما تقدم‏.‏

وقال أبو إسحاق عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ قبض النبى صلى الله عليه وسلم وأنا ختين‏.‏

وروي شعبة، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس‏:‏ توفي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا ابن خمس عشرة سنة‏.‏

وذكر الزبير والواقدى أن ابن عباس ولد فى الشعب، وذلك قبل الهجرة بثلاث سنين، وكان ابن ثلاث عشرة سنة حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

باب نِسْيَانِ الْقُرْآنِ وَهَلْ يَقُولُ نَسِيتُ آيَةَ كَذَا وَكَذَا‏؟‏

وَقَوْلِ اللَّهِ عز وجل‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، سَمِعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم رَجُلا يَقْرَأُ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَرْحَمُهُ اللَّهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً مِنْ سُورَةِ كَذَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا لأحَدِهِمْ، يَقُولُ‏:‏ نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ هُوَ نُسِّىَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قد نطق القرآن بإضافة النسيان إلى العبد فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 6‏]‏ وشهد ذلك بصدق حديث عائشة أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏يرحمه الله، لقد أذكرنى كذا وكذا آية أسقطتهن من سورة كذا‏)‏‏.‏

فأضاف الإسقاط إلى نفسه، والإسقاط هو النسيان بعينه‏.‏

وحديث عبد الله خلاف هذا، وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما لأحدهم يقول‏:‏ نسيت آية كيت وكيت، بل هو نسى‏)‏‏.‏

فاستحب صلى الله عليه وسلم أن يضيف النسيان إلى خالقه الذى هو الله تعالى وقد جاء فى القرآن عن موسى صلى الله عليه وسلم أنه أضاف النسيان مرة إلى نفسه ومرة إلى الشيطان فقال‏:‏ ‏(‏فَإِنِّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 63‏]‏‏.‏

وقال النبى صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنى لأنسى أو أنسى‏)‏، يعنى إنى لأنسى أنا أو ينسينى ربى، فنسب النسيان مرة إلى نفسه، ومرة إلى الله تعالى هذا على قول من لم يجعل قوله‏:‏ إنى لأنسى أو أنسى شكا من المحدث فى أى الكلمتين قال‏.‏

وهو قول عيسى بن دينار، وليس فى شىء من ذلك اختلاف ولا تضاد فى المعنى، لأن لكل إضافة منها معنى صحيحًا فى كلام العرب، فمن أضاف النسيان إلى الله فلأنه خالقه وخالق الأفعال كلها، ومن نسبه إلى نفسه فلأن النسيأن فعل منه مضاف إليه من جهة الاكتساب والتصرف، ومن نسبه إلى الشيطان فهو بمعنى الوسوسة فى الصدور وحديث الأنفس بما جعل الله للشيطان من السلطان على هذه الوسوسة، فلكل إضافة منها وجه صحيح، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم بقوله والله أعلم‏:‏ ‏(‏ما لأحدهم يقول نسيت آية كذا وكذا؛ بل هو نسى‏)‏ أن يجرى على ألسن العباد نسبة الأفعال إلى بارئها وخالقها، وهو الله؛ ففى ذلك إقرار له بالعبودية واستسلام لقدرته، وهو أولى من نسبة الأفعال إلى مكتسبها فإن نسبها إلى مكتسبها فجائز بدليل الكتاب والسنة‏.‏

باب مَنْ لَمْ يَرَ بَأْسًا أَنْ يَقُولَ‏:‏ سُورَةُ الْبَقَرَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو مَسْعُود الأنْصَارِىِّ، قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِمَا كَفَتَاهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَرَ، أَنَّهُ سَمع هِشَامَ بْنَ حَكِيمِ، يَقْرَأُ سُورَةَ الْفُرْقَانِ فِى حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، عَلَى حُرُوفٍ كَثِيرَةٍ‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم سَمِعَ قَارِئًا يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ فِى الْمَسْجِدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَرْحَمُهُ اللَّهُ لَقَدْ أَذْكَرَنِى كَذَا وَكَذَا آيَةً، أَسْقَطْتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا‏)‏‏.‏

فى هذه الأحاديث رد قول من يقول أنه لا يجوز أن يقول سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، وزعم أن الصواب فى ذلك أن يقال‏:‏ السورة التى يذكر فيها البقرة ويذكر فيها آل عمران، وهو قول يروى عن بعض السلف‏.‏

وقالوا‏:‏ إذا قال سورة البقرة وسورة آل عمران فقد أضاف السورة إلى البقرة، والبقرة لا سورة لها، وقد تقدم فى كتاب الحج فى باب يكبر مع كل حصاة‏.‏

باب التَّرْتِيلِ فِى الْقِرَاءةِ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 4‏]‏، وَقَوْلِهِ‏:‏ ‏(‏وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ونزلناه تنزيلا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏، وَمَا يُكْرَهُ أَنْ يُهَذَّ كَهَذِّ الشِّعْرِ‏.‏

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ‏:‏ ‏{‏فَرَقْنَاهُ‏}‏ فَصَّلْنَاهُ‏.‏

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، أن رَجُلاً قَالَ‏:‏ قَرَأْتُ الْمُفَصَّلَ الْبَارِحَةَ، فَقَالَ‏:‏ هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ، إِنَّا قَدْ سَمِعْنَا الْقِرَاءَةَ، وَإِنِّى لأحْفَظُ الْقُرَنَاءَ الَّتِى كَانَ يَقْرَأُ بِهِنَّ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم ثَمَانِىَ عَشْرَةَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ وَسُورَتَيْنِ مِنْ آلِ حم‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، فِى قَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ‏}‏ ‏[‏القيامة‏:‏ 16‏]‏، قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا نَزَلَ جِبْرِيلُ بِالْوَحْىِ، وَكَانَ مِمَّا يُحَرِّكُ بِهِ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ، فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفُ مِنْهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ ‏(‏الحديث‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر أبو عبيد عن مجاهد فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 4‏]‏، قال‏:‏ ترسل ترسلاً‏.‏

وقال أبو حمزة‏:‏ قلت لابن عباس‏:‏ إنى سريع القرآءة، وإنى أقرأ القرآن فى ثلاث، فقال‏:‏ لأن أقرأ البقرة فى ليلة فأتدبرها وأرتلها خير من أن أقرأ كما تقول‏.‏

وقال مرة‏:‏ خير من أجمع القرآن هذرمة، وأكثر العلماء يستحبون الترتيل فى القراءة ليتدبره القارئ ويتفهم معانيه‏.‏

روى علقمة عن ابن مسعود قال‏:‏ لا تنثروه نثر الدقل ولا تهذوه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة‏.‏

وذكر أبو عبيد أن رجلاً سأل مجاهداَ عن رجل قرأ البقرة وآل عمران، ورجل قرأ البقرة قيامهما واحد وركوعهما واحد وسجودهما واحد، أيهما أفضل‏؟‏ قال‏:‏ الذى قرأ البقرة‏.‏

وقرأ‏:‏ ‏(‏وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 106‏]‏ الآية‏.‏

وقال الشعبى‏:‏ إذا قرأتم القرآن فاقرءوه قراءة تسمعه آذانكم، وتفهمه قلوبكم، فإن الأذنين عدل بين اللسان والقلب، فإذا مررتم بذكر الله فاذكروا الله، وإذا مررتم بذكر النار فاستعيذوا بالله منها، وإذا مررتم بذكر الجنة فاسألوها الله‏.‏

وفيها قول آخر؛ روى ابن القاسم وابن وهب عن مالك فى الهذ قى القراءة قال‏:‏ من الناس من إذا هذ أخف عليه وإذا رتل أخطأ، ومن الناس من لا يحسن الهذ، والناس فى هذا على قدر حالاتهم وما يخف عليهم، وكل واسع‏.‏

وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا يختمون القرآن فى ركعة، وهذا لا يتمكن إلا بالهذ، والحجة لهذا القول حديث أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏خفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرح فيقرأ القرآن قبل أن تسرح‏)‏، وهذا لا يتم إلا بالهذ وسرعة القراءة، والمراد بالقرآن فى هذا الحديث الزبور‏.‏

ذكره البخاري في كتاب الأنبياء وداود صلى الله عليه وسلم ممن أنزل الله فيه‏:‏ ‏(‏أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 90‏]‏، وإنما ذكر النبى صلى الله عليه وسلم هذا الفعل من داود صلى الله عليه وسلم على وجه الفضيلة له والإعجاب بفعله، ولو ذكره على غير ذلك لنسخه ولأمر بمخالفته، فدل على إباحة فعله والله أعلم، وسأذكر من كان يقرأ القرآن فى ركعة بعد هذا فى باب‏:‏ فى كم يقرأ القرآن، إن شاء الله‏.‏

باب مَدِّ الْقِرَاءَةِ

- فيه‏:‏ أَنَس أنَّهُ سُئل عن قِرَاءَةُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ كَانَ يمد مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ‏(‏يَمُدُّ بِبِسْمِ اللَّهِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحْمَنِ، وَيَمُدُّ بِالرَّحِيمِ‏.‏

وذكر أبو عبيد عن الليث عن ابن أبى مليكة، عن يعلى بن مالك عن أم سلمة أنها نعتت قراءة رسول الله قراءة مفسرة حرفًا حرفًا‏.‏

وقالت أم سلمة أيضًا‏:‏ كان النبى صلى الله عليه وسلم يقطع قراءته، وإنما كان يفعل ذلك والله أعلم لأمر الله له بالترتيل، وأن يقرأه على مكث، وألا يحرك به لسانه ليعجل به، فامتثل أمر ربه تعالى فكان يقرؤه على مهل ليبين لأمته كيف يقرءون، وكيف يمكنهم تدبر القرآن وفهمه‏.‏

وذكر أبو عبيد عن إبراهيم قال‏:‏ قرأ علقمة على عبد الله فكأنه عجل؛ فقال عبد الله‏:‏ فداك أبى وأمى، رتل قراءته، زين القرآن‏.‏

وكان علقمة حسن الصوت بالقرآن‏.‏

باب التَّرْجِيعِ

- فيه‏:‏ عَبْدَاللَّهِ بْنَ مُغَفَّلٍ، قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ، وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ قِرَاءَةً لَيِّنَةً يَقْرَأُ، وَيُرَجِّعُ‏.‏

فذكر البخارى هذا الحديث فى آخر كتاب الاعتصام، وزاد فيه‏:‏ ثم قرأ معاوية قراءة لينة ورجع، ثم قال‏:‏ لولا أنى أخشى أن يجتمع الناس عليكم لرجعت كما رجع ابن مغفل، يعنى عن النبى صلى الله عليه وسلم، فقلت لمعاوية‏:‏ كيف كان ترجيعه قال‏:‏ آ ا ثلاث مرات‏.‏

وفى هذا الحديث من الفقه إجازة قراءة القرآن بالترجيع والإلحان؛ لقوله فى وصف قراءته صلى الله عليه وسلم‏:‏ آ ا ثلاثًا، وهذا غاية الترجيع، وقد تقدم فى باب‏:‏ من لم يتغن بالقرآن‏.‏

باب حُسْنِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، أن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏لَقَدْ أُوتِيتَ مِزْمَارًا مِنْ مَزَامِيرِ آلِ دَاوُدَ‏)‏‏.‏

وروى ابن شهاب عن أبى سلمة قال‏:‏ كان عمر إذا رأى أبا موسى قال‏:‏ ذكرنا ربنا يا أبا موسى‏.‏

فيقرأ عنده‏.‏

وقال أبو عثمان النهدى‏:‏ كان أبو موسى يصلى بنا فلو قلت‏:‏ إنى لم أسمع صوت صنج قط ولا صوت بربط ولا شيئًا قط أحسن من صوته‏.‏

قال أبو عبيد‏:‏ ومحمل الأحاديث التى جاءت فى حسن الصوت إنما هو على طريق الحزن والتخويف والتشويق‏.‏

يبين ذلك حديث أبى موسى أن أزواج النبى سمعوا قراءته فأخبر بذلك فقال‏:‏ لو علمت لشوقت تشويقًا وحبرت تحبيرًا، فهذا وجهه، لا الألحان المطربة الملهية‏.‏

روى سفيان، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال‏:‏ سئل رسول الله، أى الناس أحسن صوتًا بالقرآن‏؟‏ قال‏:‏ الذى إذا سمعته رأيته يخشى الله‏.‏

وعن ابن أبى مليكة عن عبد الرحمن بن السائب قال‏:‏ قدم علينا سعد بعد ما كف بصره فأتيته مسلمًا فانتسبنى فانتسبت له، فقال‏:‏ مرحبًا بابن أخى، بلغنى أنك حسن الصوت بالقرآن، وسمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن هذا القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا‏.‏

وذكر أبو عبيد بإسناده قال‏:‏ كنا على سطح، ومعنا رجل من أصحاب النبى صلى الله عليه وسلم، قال المحدث‏:‏ ولا أعلمه إلا عيسى الغفارى، فرأى الناس يخرجون فى الطاعون يفرون فقال‏:‏ يا طاعون، خذنى إليك، فقيل‏:‏ أتتمنى الموت وقد نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن ذلك‏؟‏ قال‏:‏ إنى أبادر خصالاً، سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يتخوفهن على أمته‏:‏ بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم به غناء، وقال أبو سليمان الخطابى‏:‏ قوله‏:‏ آل داود، فإنه أراد داود نفسه لأنا لا نعلم أحدًا من آله أعطى من حسن الصوت ما أعطى داود قال غيره‏:‏ والآل عند العرب‏:‏ الشخص‏.‏

قال أبو سليمان‏:‏ وسئل أبو عبيدة معمر بن المثنى عن رجل أوصى لآل فلان، ألفلان نفسه المسمى من هذا شىء‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏، ففرعون أولهم وأنشد‏:‏

ولا تبك ميتا بعد ميت أحبه *** علىّ وعباس وآل أبى بكر

يريد أبا بكر نفسه، وقال ابن عون‏:‏ كان الحسن إذا صلى على النبى قال‏:‏ اللهم اجعل صلواتك على آل محمد كما جعلتها على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد‏.‏

يريد بآل محمد نفسه؛ لأن الأمر من الله بالصلاة إنما يتوجه إليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 56‏]‏ الآية‏.‏

وقد يكون آل الرجل أهل بيته الأدنين، وقال زيد بن أرقم‏:‏ آل محمد آل عباس وآل عقيل، وآل جعفر وآل على‏.‏

وقال أبو عبيد فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 49‏]‏، قال‏:‏ هم أهل دينه قال‏:‏ ولا يجوز ذلك إلا فى الرئيس الذى الباقون له تبع، وكذلك آل محمد إنما هم أمته وأهل دينه قال‏:‏ فإذا جاوزت هذا فآل الرجل‏:‏ أهل بيته خاصة‏.‏

وقال بعض الناس‏:‏ قول أبى عبيدة خطأ عند الفقهاء لم يقل به أحد منهم‏.‏

باب مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْمَعَ الْقُرْآنَ مِنْ غَيْرِهِ

- فيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ، قال لِى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ عَلَىَّ الْقُرْآنَ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِى‏)‏‏.‏

معنى استماعه القرآن من غيره والله أعلم ليكون عرض القرآن سنة، ويحتمل أن يكون كى يتدبره ويفهمه، وذلك أن المستمع أقوى على التدبر، ونفسه أخلى وأنشط من نفس القارئ؛ لأنه فى شغل بالقراءة وأحكامها‏.‏

فإن قيل‏:‏ فقد يجوز أن يكون سماعه صلى الله عليه وسلم للقرآن من غيره كما قلت، فما وجه قراءته صلى الله عليه وسلم القرآن على أبى، وقد ذكره البخارى فى فضائل الصحابة فى فضائل أبىّ‏.‏

قيل‏:‏ يحتمل أن يكون وجه ذلك ليتلقنه أبى من فيه صلى الله عليه وسلم، فلا يتخالجه شك فى اختلاف القراءات بعده، وذلك أنه خاف عليه الفتنة فى هذا الباب؛ لأنه لا يجوز أن يكون أحد أقرأ للقرآن من النبى صلى الله عليه وسلم، ولا أوعى له وأعلم به؛ لأنه نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربى مبين، قاله الخطابى، وقال أبو بكر بن الطيب نحوه، قال‏:‏ قرأ النبى على أبىّ وهو أعلم بالقرآن منه وأحفظ؛ ليأخذ أبىّ نمط قراءته وسنته ويحتذى حذوه‏.‏

وقد روى هذا التأويل عن أبىّ وابنه‏.‏

باب قَوْلِ الْمُقْرِئِ لِلْقَارِئِ حَسْبُكَ

- فيه‏:‏ عَبْدِ اللَّه، قال لِى النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ عَلَىَّ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏، فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الآيَةِ‏:‏ ‏(‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏حَسْبُكَ الآنَ‏)‏، فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى جواز قطع القراءة على القارئ إذا حدث على المقرئ عذر أو شغل بال؛ لأن القراءة على نشاط المقرئ أولى ليتدبر معانى القرآن ويتفهم عجائبه، ويحتمل أن يكون أمره صلى الله عليه وسلم بقطع القراءة تنبيهًا له على الموعظة والاعتبار فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ الآية‏.‏

ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم بكى عندها، وبكاؤه إشارة منه إلى معنى الوعظ؛ لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه، والإيمان به وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن‏.‏

باب فِى كَمْ يُقْرَأُ الْقُرْآنُ

وَقَوْلُ اللَّهِ تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ سُفْيَانُ، قَالَ لِى ابْنُ شُبْرُمَةَ‏:‏ نَظَرْتُ كَمْ يَكْفِى الرَّجُلَ مِنَ الْقُرْآنِ‏؟‏ فَلَمْ أَجِدْ سُورَةً أَقَلَّ مِنْ ثَلاثِ آيَاتٍ، فَقُلْتُ‏:‏ لا يَنْبَغِى لأحَدٍ أَنْ يَقْرَأَ أَقَلَّ مِنْ ثَلاثِ آيَاتٍ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن مَسْعُود، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ قَرَأَ بِالآيَتَيْنِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِى لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ‏:‏ أَنْكَحَنِى أَبِى امْرَأَةً ذَاتَ حَسَبٍ، فَكَانَ يَتَعَاهَدُ كَنَّتَهُ، فَيَسْأَلُهَا عَنْ بَعْلِهَا، فَتَقُولُ‏:‏ نِعْمَ الرَّجُلُ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَطَأْ لَنَا فِرَاشًا، وَلَمْ يُفَتِّشْ لَنَا كَنَفًا مُنْذُ أَتَيْنَاهُ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ذَكَرَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏الْقَنِى بِهِ‏)‏، فَلَقِيتُهُ بَعْدُ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏كَيْفَ تَصُومُ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ كُلَّ يَوْمٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏وَكَيْفَ تَخْتِمُ‏)‏‏؟‏ قَالَ‏:‏ كُلَّ لَيْلَةٍ، قَالَ‏:‏ ‏(‏صُمْ من كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثَةً، وَاقْرَأِ الْقُرْآنَ فِى كُلِّ شَهْرٍ‏)‏، قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ أُطِيقُ أَكْثَرَ، قَالَ‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ فِى كُلِّ سَبْعِة لَيَالٍ مَرَّةً‏)‏، فَلَيْتَنِى قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏.‏‏.‏‏.‏ الحديث‏.‏

قال البخارى‏:‏ قال بعضهم‏:‏ فى ثلاث أو فى خمس أو فى سبع وأكثرهم على سبع، وقال صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو‏:‏ اقرأه فى سبع ولا تزد على ذلك‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر أهل التفسير فى تأويل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، قالوا‏:‏ ثلاث آيات فصاعدا‏.‏

ويقال‏:‏ أقصر سورة فى القرآن كما قال ابن شبرمة‏.‏

قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة كفتاه‏.‏

نص فى أن قارئ الآيتين داخل فى معنى قوله‏:‏ ‏(‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏، وفى حديث عبد الله بن عمرو أن النبى صلى الله عليه وسلم أمره أن يقرأ فى سبع ليال، وكان جماعة من السلف يأخذون بهذا الحديث‏.‏

روى ذلك عن عثمان بن عفان وابن مسعود وتميم الدارى، وعن إبراهيم النخعى مثله‏.‏

وذكر أبو عبيد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن قراءة القرآن فى سبع فقال‏:‏ حسن، ولأن أقرأه فى عشرين أو فى النصف أحب إلىّ من أن أقرأه فى سبع، وسلنى لم ذلك‏؟‏ أردده واقف عليه، وكان أبى بن كعب يختمه فى ثمان، وكان الأسود يختم القرآن فى ست، وكان علقمة يختمه فى خمس، وروى الطيب بن سليمان، عن عمرة، عن عائشة أن رسول الله كان لا يختم القرآن فى أقل من ثلاث‏.‏

وعن قتادة عن يزيد بن عبد الله الشخير عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله‏:‏ ‏(‏لا يفقه من قرأه فى أقل من ثلاث‏)‏‏.‏

وروى عن معاذ بن جبل‏:‏ وكانت طائفة تقرأ القرآن كله فى ليلة أو ركعة‏.‏

روى ذلك عن عثمان بن عفان وتميم الدارى، وعن علقمة وسعيد بن جبير أنهما قرأا القرآن فى ليلة بمكة، وكان ثابت البنانى يختم القرآن فى كل يوم وليلة من شهر رمضان، وكان سليمان يختم القرآن فى ليلة ثلاث مرات، ذكر ذلك كله أبو عبيد وقال‏:‏ الذى أختار من ذلك ألا يقرأ القرآن فى أقل من ثلاث، لما روى عن النبى وأصحابه من الكراهة لذلك‏.‏

باب الْبُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآن

- فيه‏:‏ ابْن مسعود، أن النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏اقْرَأْ عَلَىَّ‏)‏، قُلْتُ‏:‏ أَقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ‏؟‏ فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ‏:‏ ‏(‏وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 41‏]‏ قَالَ لِى‏:‏ ‏(‏كُفَّ، أَوْ أَمْسِكْ‏)‏ فَرَأَيْتُ عَيْنَيْهِ تَذْرِفَانِ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ البكاء عند قراءة القرآن حسن، قد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة، وإنما بكى صلى الله عليه وسلم عند هذا لأنه مثل لنفسه أهوال يوم القيامة، وشدة الحال الداعية له إلى شهادته لأمته بتصديقه والإيمان به، وسؤاله الشفاعة لهم ليريحهم من طول الموقف وأهواله، وهذا أمر يحق له طول البكاء والحزن‏.‏

ذكر أبو عبيد عن مطرف بن عبد الله بن الشخير، عن أبيه قال‏:‏ انتهيت إلى رسول الله وهو يصلى ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء‏.‏

وعن الأعمش عن أبى صالح قال‏:‏ لما قدم أهل اليمن فى زمن أبى بكر سمعوا القرآن فجعلوا يبكون قال أبو بكر‏:‏ هكذا كنا ثم قست القلوب‏.‏

وقال الحسن‏:‏ قرأ عمر بن الخطاب‏:‏ ‏(‏إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ مَا لَهُ مِن دَافِعٍ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 7، 8‏]‏ فربا ربوة عيد منها عشرين يومًا‏.‏

وقال عبيد بن عمير‏:‏ صلى بنا عمر صلاة الفجر فقرأ سورة يوسف حتى إذا بلغ‏:‏ ‏(‏وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 84‏]‏ بكى حتى انقطع فركع‏.‏

وفي حديث آخر لما قرأ‏:‏ ‏(‏إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّى وَحُزْنِى إِلَى اللّهِ‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 86‏]‏، بكى حتى سمع نشيجه من وراء الصفوف‏.‏

وعن ابن المبارك، عن مسعر، عن عبد الأعلى التيمى قال‏:‏ من أوتى من العلم ما لا يبكيه، فليس بخليق أن يكون أوتى علمًا ينفعه؛ لأن الله تعالى نعت العلماء فقال‏:‏ ‏(‏إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 107‏]‏ الآيتين‏.‏

وقرأ عبد الرحمن بن أبى ليلى سورة مريم؛ فلما انتهى إلى قوله‏:‏ ‏(‏خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 58‏]‏، فسجد بها، فلما رفع رأسه قال‏:‏ هذه السجدة فأين البكاء‏؟‏ وكره السلف الصعق والغشى عند قراءة القرآن‏.‏

ذكر أبو عبيد بإسناده عن أبى حازم قال‏:‏ مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس حوله، فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ فقالوا‏:‏ إذا قرئ عليه القرآن أو سمع الله يذكر خر من خشية الله، فقال ابن عمر‏:‏ والله إنا لنخشى الله وما نسقط‏.‏

وعن عكرمة قال‏:‏ سئلت أسماء‏:‏ هل كان أحد من السلف يغشى عليه من القراءة‏؟‏ فقالت‏:‏ لا، ولكنهم كانوا يبكون‏.‏

وقال هشام بن حسان‏:‏ سئلت عائشة عمن يصعق عند قراءة القرآن فقالت‏:‏ القرآن أكرم من أن تنزف عنه عقول الرجال، ولكنه كما قال الله‏:‏ ‏(‏تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وسُئل ابن سيرين عن ذلك فقال‏:‏ ميعاد بيننا وبينه أن يجلس على حائط ثم يقرأ عليه القرآن كله، فإن وقع فهو كما قال‏.‏

باب مَنْ رَاءَى بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، أَوْ تَأَكَّلَ بِهِ، أَوْ فَخَرَ بِهِ

- فيه‏:‏ عَلِىّ، قَالَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَأْتِى فِى آخِرِ الزَّمَانِ قَوْمٌ حُدَثَاءُ الأسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الإسْلامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ قَتْلَهُمْ أَجْرٌ لِمَنْ قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاتَكُمْ مَعَ صَلاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِى النَّصْلِ فَلا يَرَى شَيْئًا وَيَنْظُرُ فِى الْقِدْحِ فَلا يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِى الرِّيشِ فَلا يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِى الْفُوقِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو مُوسَى، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الْمُؤْمِنُ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏، الحديث إلى قوله‏:‏ ‏(‏وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِى يَقْرَأُ الْقُرْآنَ كَالرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ يقرءون القرآن، لا يجاوز حناجرهم‏.‏

يعنى‏:‏ لا يرتفع إلى الله، ولا يؤجرون عليه لعدم خلوص النية بقراءته لله تعالى ولذلك شبه قراءة المنافق لما كانت رياء وسمعة بطعم الريحانة المر الذى لا يلتذ به آكله، كما لا يلتذ المنافق والمرائى بأجر قراءته وثوابها‏.‏

وقال حذيفة‏:‏ أقرأ الناس بالقرآن منافق يقرؤه، لا يترك منه ألفًا ولا واوًا، لا يجاوز ترقوته، وقال ابن مسعود‏:‏ أعربوا القرآن، فإنه يأتى عربى فسيأتى قوم يتقفونه ليسوا بخياركم‏.‏

وروى أبو عبيد من حديث أبى سعيد الخدرى عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ تعلموا القرآن واسألوا الله به قبل أن يتعلمه قوم يسألون به الدنيا، فإن القرآن يتعلمه ثلاثة نفر‏:‏ رجل يباهى به، ورجل يستأكل به الناس، ورجل يقرأ لله‏.‏

وذكر أيضًا عن زادان قال‏:‏ من قرأ القرآن ليستأكل به الناس، جاء يوم القيامة ووجهه عظم ليس عليه لحم‏.‏

وقال ابن مسعود‏:‏ سيجئ على الناس زمان يسئل فيه بالقرآن، فإذا سألوكم فلا تعطوهم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ينظر فى النصل‏)‏ فالنصل‏:‏ حديدة السهم‏.‏

والقدح‏:‏ عوده والفرق منه‏:‏ موضع الوتر‏.‏

وجمعه أفواق وفوق وقفًا‏.‏

باب اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ

- وفيه‏:‏ جُنْدَب، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اقْرَءُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ قُلُوبُكُمْ، فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَبْدِاللَّه، أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلا يَقْرَأُ آيَةً سَمِعَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ خِلافَهَا، فَأَخَذْتُ بِيَدِهِ، فَانْطَلَقْتُ بِهِ إِلَى النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏كِلاكُمَا مُحْسِنٌ، فَاقْرَآ أَكْبَرُ عِلْمِى‏)‏، قَالَ‏:‏ ‏(‏فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَأهلِكهم اللَّه‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ قوله‏:‏ اقرءوا ما ائتلفت قلوبكم‏.‏

فيه الحض على الألفة والتحذير من الفرقة فى الدين، فكأنه قال‏:‏ اقرءوا القرآن والزموا الائتلاف على ما دل عليه وقاد إليه، فإذا اختلفتم فقوموا عنه، أى فإذا عرض عارض شبهة توجب المنازعة الداعية إلى الفرقة فقوموا عنه‏:‏ أى فاتركوا تلك الشبهة الداعية إلى الفرقة، وارجعوا إلى المحكم الموجب للألفة، وقوموا للاختلاف وعما أدى إليه، وقاد إليه لا أنه أمر بترك قراءة القرآن باختلاف القراءات التى أباحها لهم لأنه قال لابن مسعود والرجل الذى أنكر عليه مخالفته له فى القراء‏:‏ كلاكما محسن، فدل أنه لم ينهه عما جعله فيه محسنًا، وإنما نهاه عن الاختلاف المؤدى إلى الهلاك بالفرقة فى الدين‏.‏

كِتَاب التَّمَنِّى

باب مَنْ يتمنى الشَّهَادَةَ

- فيه أبو هريرة‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْلا أَنَّ رِجَالا يَكْرَهُونَ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِى، وَلا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ مَا تَخَلَّفْتُ، لَوَدِدْتُ أَنِّى أُقْتَلُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلُ‏)‏‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ جواز تمنى الخير وأفعال البر والرغبة فيها، وإن علم أنه لا ينالها حرصًا على الوصول إلى أعلى درجات الطاعة‏.‏

وفيه‏:‏ فضل الشهادة على سائر أعمال البر لأنه صلى الله عليه وسلم تمناها دون غيرها، وذلك لرفيع درجتها، وكرامة أهلها لأن الشهداء أحياء عند ربهم يرزقون، وذلك والله أعلم لسماحة أنفسهم ببذل مهجتهم فى مرضاة الله وإعزاز دينه، ومحاربة من حاده وعاداه، فجازاهم بأن عوضهم من فقد حياة الدنيا الفانية الحياة الدائمة فى الدار الباقية، فكانت المجازاة من حسن الطاعة‏.‏

باب تَمَنِّى الْخَيْرِ، وَقَوْلِ النَّبِيِّ عليه السلام‏:‏ ‏(‏لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا‏)‏

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ كَانَ لِى أُحُدٌ ذَهَبًا لأحْبَبْتُ أَنْ لا يَأْتِىَ عَلَىَّ ثَلاثٌ وَعِنْدِى مِنْهُ دِينَارٌ، لَيْسَ شَىْءٌ أَرْصُدُهُ فِى دَيْنٍ عَلَىَّ أَجِدُ مَنْ يَقْبَلُهُ‏)‏‏.‏

فى هذا الحديث من الفقه جواز تمنى الخير وأفعال البر لأنه صلى الله عليه وسلم تمنى لو كان له مثل أحد ذهبًا لأحب أن ينفقه فى طاعة الله قبل أن يأتى عليه ثلاث ليال‏.‏

وقد تمنى الصالحون ما يمكن كونه وما لا يمكن حرصًا منهم على الخير، فتمنى بنو الزبير منازل من الدنيا لتنفذ أموالهم فى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر‏.‏

روى أن عبد الله وعروة وصعبًا بنى الزبير بن العوام اجتمعوا عند الكعبة، فقال عبد الله‏:‏ أحب أن لا أموت حتى أكون خليفة‏.‏

وقال مصعب‏:‏ أحب أن ألى العراقين‏:‏ الكوفة والبصرة، وأتزوج سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة‏.‏

وقال عروة‏:‏ لكننى أسأل الله الجنة، فصار عبد الله ومصعب إلى تمنيا، وترون أن عروة صار إلى الجنة إن شاء الله، وما تمنوه مما لا سبيل إلى كونه تصغيرًا لأنفسهم وتحقيرًا لأعمالهم، فتمنوا أنهم لم يخلقوا وأنهم أقل الموجودات‏.‏

روى عن أبى بكر الصديق أنه قال‏:‏ وددت أنى خضرة تأكلنى الدواب‏.‏

وتناول عمر بن الخطاب تبنة من الأرض فقال‏:‏ ليتنى كنت هذه، ليتنى لم أك شيئًا، ليت أمى لم تلدنى، ليتنى كنت نسيًا منسيًا‏.‏

وقرأ عمر‏:‏ ‏(‏هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 1‏]‏، فقال‏:‏ يا ليتها تمت‏.‏

وقال عمران بن حصين‏:‏ وددت أنى رماد على أكمة تسفينى الرياح فى يوم عاصف‏.‏

وقال أبو ذر‏:‏ وددت أن الله خلقنى شجرة تقضم‏.‏

ومرت عائشة بشجرة فقالت‏:‏ يا ليتنى كنت ورقة من هذه الشجرة‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ وددت أنى كبش فيذبحنى أهلى فيأكلون لحمى ويحسون مرقى‏.‏

وإنما حملهم على ذلك شدة الخوف من مسائلة الله والعرض عليه، وعلى قدر العلم بالله يكون الخشية منه، ولذلك قال الفضيل‏:‏ من مقت نفسه فى الله أمنه الله من مقته‏.‏

باب قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِى مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْىَ، وَلَحَلَلْتُ مَعَ النَّاسِ حِينَ حَلُّوا‏)‏

وذكره من حديث جابر أيضًا‏.‏

قوله‏:‏ ‏(‏لو استقبلت من أمرى ما استدبرت‏)‏ أى لو علمت أن أصحابى يأتون من العمرة فى أشهر الحج ما أحرمت بالحج مفردًا، ولأحرمت بالعمرة فلو أحرمت بالعمرة لم يكرهها أحد منهم، وللانت نفوسهم لفعلى لها واختيارى فى نفسى، فكرهوها حين أمرهم بها؛ لكونهم على خلاف فعل نبيهم؛ مع أنهم كانوا فى الجاهلية يكرهون العمرة فى أشهر الحج فتمنى صلى الله عليه وسلم موافقة أصحابه وكره ما ظهر منهم من الإشفاق لمخالفتهم له، ففى هذا من الفقه أن الإمام والعالم ينبغى له أن يسلك سبيل الجمهور وألا يخالف الناس فى سيرته وطريقته‏.‏

باب قَول النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَيْتَ كَذَا وَكَذَا‏)‏

- فيه‏:‏ عَائِشَة، قَالَتْ‏:‏ أَرِقَ النَّبِىُّ عليه السلام ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَيْتَ رَجُلا صَالِحًا مِنْ أَصْحَابِى يَحْرُسُنِى اللَّيْلَةَ‏)‏؛ فأتى سَعْد‏:‏ فحرسه‏.‏

وقال بِلالٌ‏:‏ أَلا لَيْتَ شِعْرِى هَلْ أَبِيتَنَّ لَيْلَةً بِوَادٍ وَحَوْلِى إِذْخِرٌ وَجَلِيلُ فَأَخْبَرْت عَائِشَة النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه أباحة تمنى ما ينتفع به فى الدنيا، ويمكن أن يكون هذا الحديث قبل أن ينزل عليه‏:‏ ‏(‏وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 67‏]‏، فلما علم ذلك لم يحتج إلى حارس بعد، ويمكن أن يفعله صلى الله عليه وسلم بعد نزول الآية عليه ليستن به الأمراء، ولا يضيعوا حرس أنفسهم فى أوقات الغرة والغفلة، والله أعلم‏.‏

باب تَمَنِّى الْقُرْآنِ وَالْعِلْمِ

- فيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَحَاسُدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ‏:‏ رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، يَقُولُ‏:‏ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ هَذَا لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالا يُنْفِقُهُ فِى حَقِّهِ، فَيَقُولُ‏:‏ لَوْ أُوتِيتُ مِثْلَ مَا أُوتِىَ لَفَعَلْتُ كَمَا يَفْعَلُ‏)‏‏.‏

هذا من الحسد الحلال، والحاسد فيه مشكور؛ لأنه إنما حسده على العمل بالقرآن والعلم، وحسد صاحب المال على نفقته له فى حقه فلم يقع الحسد على شيء من أمور الدنيا، وإنما وقع على ما يرضى الله ويقرب منه، فلذلك كان تمنيه حسنًا، وكذلك تمنى سائر أبواب الخير إنما يجوز منه ما كان فى معنى هذا الحديث إذا خلصت النية فى ذلك لله، وخلص ذلك من البغى والحسد‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ التَّمَنِّى قول اللَّه تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 32‏]‏

- فيه‏:‏ أَنَس‏:‏ لَوْلا أَنِّى سَمِعْتُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لا تَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ لَتَمَنَّيْتُ‏)‏‏.‏

- فيه‏:‏ خباب مثله‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمُ الْمَوْتَ، إِمَّا مُحْسِنًا فَلَعَلَّهُ يَزْدَادُ، وَإِمَّا مُسِيئًا فَلَعَلَّهُ يَسْتَعْتِبُ‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ بين الله تعالى فى هذه الآية ما لا يجوز تمنيه، وذلك ما كان من عرض الدنيا وأشباهه‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وقيل‏:‏ إن هذه الآية نزلت فى نساء تمنين منازل الرجال، وأن يكون لهن ما لهم فنهى الله تعالى عن الأمانى الباطلة؛ إذ كانت الأمانى الباطلة تورث أهلها الحسد والبغى بغير الحق‏.‏

وقال ابن عباس فى هذه الآية‏:‏ لا يتمنى الرجل يقول‏:‏ ليت لى مال فلان وأهله، فنهى الله عن ذلك وأمر عباده أن يسألوه من فضله‏.‏

وسئل الحسن البصرى فقيل له‏:‏ الرجل يرى الدار فتعجبه والدابة فتعجبه فيقول‏:‏ ليت لي مثل هذه الدار، ليت لى مثل هذه الدابة‏.‏

قال الحسن‏:‏ لا يصلح هذا‏.‏

قيل له‏:‏ فيقول‏:‏ ليت لى مثل هذه الدار‏.‏

فقال‏:‏ ولا هذا‏.‏

قيل له‏:‏ إنا كنا لا نرى بأسًا بقوله‏:‏ ليت لي مثل هذا‏.‏

فقال الحسن‏:‏ ألا ترى قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 62‏]‏ أتدرى ما يقدر له‏؟‏ ينظر إن كان خيرًا أن يبسطه له بسطه، وإن كان خيرًا أن يمسكه عنه أمسكه، فينطلق إلى شىء نظر الله فيه أنه خير لك فأمسكه عنك فتسأله إياه، فلعلك لو أعطيت ذلك كان فيه هلكة فى دينك ودنياك، ولكن إذا سألت فقل‏:‏ اللهم إنى أسألك من فضلك، فإن أعطاك أعطاك خيارًا، وإن أمسك عنك أمسك خيارًا‏.‏

ومعنى نهيه صلى الله عليه وسلم عن تمنى الموت، فإن الله قد قدر الآجال فمتمنى الموت غير راضٍ بقدر الله ولا مسلم لقضائه، وقد بين النبى صلى الله عليه وسلم ما للمحسن والمسئ فى أن لا يتمنى الموت، وذلك ازدياد المحسن من الخير ورجوع المسئ عن الشر، وذلك نظر من الله للعبد وإحسان منه إليه خير له من تمنيه الموت، وقد تقدم فى كتاب المرضى حيث يجوز تمنى الموت، وحيث لا يجوز، والأحاديث المعارضة فى ذلك وبيان معانيها فى باب تمنى الموت‏.‏

باب قَوْلِ الرَّجُلِ‏:‏ لَوْلا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا

- فيه‏:‏ الْبَرَاء، قَالَ‏:‏ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ يَوْمَ الأحْزَابِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، نَحْنُ وَلا تَصَدَّقْنَا وَلا صَلَّيْنَا‏)‏‏.‏

لولا عند العرب يمتنع بها الشىء لوجود غيره يقول‏:‏ لولا زيد ما صرت إليك‏:‏ أى كان مصيرى إليك من أجل زيد، وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏لولا الله ما اهتدينا‏)‏‏.‏

أى كان هدانا من أجل هداية الله لنا فوجود الهدى منع وقوع الضلال، وذلك كله من فعل الله بعباده فلا يفعل العبد الطاعة ولا يجتنب المعصية إلا بقدر الله وقضائه على العبد‏.‏

باب كَرَاهَةِ التَمَنِّى لِقَاءِ الْعَدُوِّ

- فيه‏:‏ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِى أَوْفَى، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ، وَسَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ‏)‏‏.‏

قد تقدم هذا الباب فى كتاب الجهاد، وجملة معناه‏:‏ النهى عن تمنى المكروهات والتصدى للمحذورات، ولذلك سأل السلف العافية من الفتن والمحن؛ لأن الناس مختلفون فى الصبر على البلاء‏.‏

باب مَا يَجُوزُ مِنَ اللَّوْ

وَقَوْلِهِ تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، ذكر الْمُتَلاعِنَيْنِ، فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ شَدَّادٍ‏:‏ أَهِىَ الَّتِى قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ كُنْتُ رَاجِمًا امْرَأَةً مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ‏؟‏‏)‏ قَالَ‏:‏ لا، تِلْكَ امْرَأَةٌ أَعْلَنَتْ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْن عَبَّاس، أَعْتَمَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِالْعِشَاءِ، فَخَرَجَ عُمَرُ، فَقَالَ الصَّلاةَ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، رَقَدَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ، فَخَرَجَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، يَقُولُ‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالصَّلاةِ هَذِهِ السَّاعَةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه السَّلام‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِى لأمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، وَاصَلَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم آخِرَ الشَّهْرِ، وَوَاصَلَ أُنَاسٌ مِنَ النَّاسِ، فَبَلَغَ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَوْ مُدَّ بِىَ الشَّهْرُ لَوَاصَلْتُ وِصَالا يَدَعُ الْمُتَعَمِّقُونَ تَعَمُّقَهُمْ‏)‏‏.‏

وقال مرة‏:‏ ‏(‏لَوْ تَأَخَّرَ لَزِدْتُكُمْ، كَالْمُنَكِّلِ لَهُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْلا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ، فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِى الْبَيْتِ، وَأَنْ أَلْصِقْ بَابَهُ فِى الأرْضِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْلا الْهِجْرَةُ؛ لَكُنْتُ امْرًَا مِنَ الأنْصَارِ، وَلَوْ سَلَكَ النَّاسُ وَادِيًا، وَسَلَكَتِ الأنْصَارُ وَادِيًا أَوْ شِعْبًا لَسَلَكْتُ وَادِىَ الأنْصَارِ أَوْ شِعْبَ الأنْصَارِ‏)‏‏.‏

- وعن عبد الله بن زيد، مثله‏.‏

‏(‏لو‏)‏‏:‏ تدل عند العرب على امتناع الشىء لامتناع غيره كقوله‏:‏ لو جاءنى زيد لأكرمتك‏.‏

معناه‏:‏ أنى امتنعت من كرامتك لامتناع زيد من المجئ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 80‏]‏ جواب لو محذوف كأنه قال‏:‏ لحلت بينكم وبين ما جئتم له من الفساد، وحذفه أبلغ؛ لأنه يحصر النفى بضروب المنع‏.‏

فإن قيل‏:‏ لم قال‏:‏ ‏(‏أو آوى إلى ركن شديد‏)‏ مع أنه يأوى إلى الله‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه إنما أراد العدة من الرجال، وإلا فله ركن وثيق مع معونة الله ونصره، وتضمنت الآية البيان عما يوجبه حال المحق إذا رأى منكرًا لا يمكنه إزالته مع التحسر على قوة أو معين على دفعه لحرصه على طاعة ربه، وجزعه من معصيته، فامتنع من الانتقام من قومه لامتناع من يعينه على ذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لو كنت راجعًا بغير بينة‏)‏‏:‏ امتنع من رجم المرأة لامتناع وجود البينة، وكذلك امتنع من معاقبتهم بالوصال لامتناع امتداد الشهر، ومثله‏:‏ لو سلك الناس واديًا لسلكت وادى الأنصار‏.‏

قال المهلب‏:‏ وإنما قال ذلك للأنصار تأنيسًا لهم ليغبطهم بحالهم، وأنها مرضية عنده وعند ربهم، لكنه أعلمهم بأنه امتنع من أن يساويهم فى حالهم لوجود الهجرة التى لا يمكنه تركها، وسائر ما فى الباب من الأحاديث؛ فإنها بلفظ لولا التى تدل على امتناع الشىء لوجود غيره كقوله‏:‏ ‏(‏لولا أن أشق على أمتى لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة‏)‏، و ‏(‏لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة‏)‏ فامتنع من أمرهم بذلك لوجود المشقة بهم عند امتثالهم أمره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لولا أن قومك حديث عهدهم بالكفر فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر فى البيت‏)‏‏.‏

فامتنع صلى الله عليه وسلم من هدم البيت وبنيانه على قواعد إبراهيم من أجل الإنكار الحاصل لذلك‏.‏

قال الطبرى‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فقد روى ابن عيينة عن ابن عجلان عن الأعرج عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، فإن أصابك شىء فلا تقل‏:‏ لو أنى فعلت كذا وكذا، ولكن قل‏:‏ قدر الله وما شاء فعل، فإن لو مفتاح الشيطان‏)‏‏.‏

فنهى عن لو فى هذا الحديث، وهذا معارض لما جاء من إباحة لو فى كتاب الله، وفى الأحاديث المروية فى ذلك‏.‏

قيل له‏:‏ لا تعارض بين شىء من ذلك، ولكل وجه ومعنى غير معنى صاحبه؛ فأما نهيه عن اللو فى حديث ابن عجلان فمعناه‏:‏ لا تقل أنى لو فعلت كذا لكان كذا على القضاء والحتم، فإنه كائن لا محالة، فأنت غير مضمر فى نفسك شرط مشيئة الله، هذا الذى نهى عنه؛ لأنه قد سبق فى علم الله كل ما يناله المرء‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِى الأَرْضِ وَلاَ فِى أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِى كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 22‏]‏‏.‏

فأما إذا كان قائله ممن يوقن بأن الشرط إذا وجد لم يكن المشروط إلا بمشيئة الله وإرادته، فذلك هو الصحيح من القول، وقد قال أبو بكر الصديق للنبى صلى الله عليه وسلم وهو فى الغار‏:‏ لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا‏.‏

فقال‏:‏ يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما، ولم ينكر ذلك عليه صلى الله عليه؛ إذا كان عالما بمخرج كلامه، وأنه إنما قال ذلك على ما جرت به العادة، واستعمله الناس علة ما الأغلب كونه عند وقوع السبب الذى ذكره، وإن كان قد كان جائزًا أن يرفع جميع المشركين الذين كانوا فوق الغار أقدامهم ثم ينظروا فيحجب الله أبصارهم عن رسوله، وعن صاحبه فلا يراهما منهم أحد، وكان جائز أن يحدث الله عمىً فى أبصارهم، فلا يبصرونهما، مع أسباب غير ذلك كثيرة، وأن أبا بكر لم يقل ذلك إلا على إيمان منه بأنهم لو رفعوا أقدامهم لم يبصروا رسول الله إلا أن يشاء الله ذلك، فهذا مفسرًا لحديث ابن عجلان وناف للتعارض فى ذلك، والله الموفق‏.‏